يعتبر كسوف الشمس من أكثر الظواهر الفلكية إثارة بين هواة الفلك، ولطالما استخدم حتى من قبل العلماء لإجراء بعض الدراسات والتجارب، فقد استخدمه العديد من العلماء لدراسة النظرية (التي أصبحت حقيقة لاحقا) القائلة بانحراف مسار الضوء عند مروره بجانب مصدر جاذبي قوي…. وها هو كسوف الشمس على الأبواب، فما عسانا نستفيد منه؟
أعتقد أن طلبي وأملي في الفائدة المرجوة من الكسوف متواضع جدا، وفي الواقع هما طلبان، وقد ذكرناهما قبل أيام في بيانين منفصلين أصدرهما المشروع الإسلامي لرصد الاهلة، وعلى الرغم من ذلك شعرت أنه من الأفضل أن أكتب شيئا يجمع الطلبين في مقالة واحدة، فسيكون ذلك أوضح من جهة، كما أنه سيكون أكثر توثيقا للمستقبل من جهة أخرى.
أما الطلب الأول، فلطالما ذكرنا خلال السنوات الماضية وبينّا لبعض المسؤولين أن غروب القمر بعد الشمس بدقيقة أو دقيقتين لا يعني أن الهلال موجود في السماء بعد غروب الشمس! فالشمس والقمر عبارة عن أقراص وليس نقاط، والغروب يحسب دائما للحافة العليا لقرص الجرم السماوي (الشمس أو القمر). ومن الجدير بالذكر أن المدة التي يحتاجها القمر (أو الشمس) لغروب كامل قرصه -من خطوط العرض المعتدلة- يصل إلى حوالي دقيقتين ونصف. فإذا قلنا مثلا أن القمر يغيب بعد غروب الشمس بدقيقة واحدة فهذا يعني أن قرص القمر سيبدأ بالغروب قبل اكتمال غروب جميع قرص الشمس. ولذلك لا يمكن أن نقول أن الهلال يغيب فعليا بعد الشمس إلا إذا غاب القمر بعدها بأكثر من ثلاث دقائق، فإن غاب قبل ذلك فرؤية الهلال حينها تلحق بالمستحيلة. ولكن أين المشكلة في ذلك؟
المشكلة تكمن في أن تقويم أم القرى السعودي يُدخل الشهر إذا حدث الاقتران قبل غروب الشمس وإذا غاب القمر بعد غروب الشمس ولو بدقيقة واحدة فقط بالنسبة لمكة المكرمة، ولذلك يجعل تقويم أم القرى رأس السنة الهجرية يوم الإثنين 04 نوفمبر 2013م، وذلك لأن القمر يغرب في مكة المكرمة يوم الأحد 03 نوفمبر بعد غروب الشمس بدقيقة واحدة. في الواقع ما كانت هذه المشكلة لتقع لو كان شرط التقويم هو أن يمكث القمر بعد غروب الشمس لمدة ثلاث دقائق على الأقل بدلا من دقيقة واحدة. والسؤال الآن ما علاقة الكسوف بهذا الموضوع!؟ والجواب هو أن ما سلف ذكره الآن حدث عدة مرات، وتقدم الأشخاص الذين اعتادوا على الشهادة برؤية الهلال حتى والرؤية غير ممكنة، وقد قبلت شهادتهم فقط لأن القمر غرب بعد الشمس بدقيقة أو دقيقتين، ومثال ذلك بداية شهر شوال لعام 1432 هـ. ولو أدرك المسؤولون حينها معنى أن يغيب القمر بعد الشمس بدقيقة أو دقيقتين لرفضوا تلك الشهادة ولما قبلوها ولما بدأنا الشهر حينها، وهذا الكسوف الآن هو فرصة لكي يرى الناس بأعينهم هذه الحقيقة وليعيها كل من لم يدركها بعد! فالشمس يوم الأحد ستغيب مكسوفة في مكة المكرمة، والقمر سيغيب حينها بعد الشمس بدقيقة، ولذلك كما ذكرنا قبل قليل جعل التقويم يوم الإثنين غرة شهر محرم.
فالناظر إلى الأفق الغربي من مكة المكرمة وقت الغروب سيرى الشمس تغيب وقد اختفى منها جزء وأصبح باللون الأسود! وهذا الشيء الأسود هو القمر المحاق وقد غطى جزء منه جزءا من قرص الشمس! وسيرى الناس أن القمر الذي يغيب بعد الشمس بدقيقة هو في الحقيقة يغيب معها، إلا أن جزء يسيرا من حافة قرص القمر العليا ستبقى بعد الشمس لمدة دقيقة!
إذا ما هو المطلوب؟ المطلوب هو أن يتم تعديل شرط بدء الشهر في تقويم أم القرى ليصبح الشرط أن يمكث القمر بعد غروب الشمس لمدة ثلاث دقائق على الأقل حتى ينتفي دخول الشهر والرؤية مستحيلة أحيانا. علما بأن جميع علماء الفلك المختصين في رصد الهلال يجمعون على أن رؤية الهلال غير ممكنة بل هي أقرب إلى المستحيلة إذا كان مكث القمر بعد غروب الشمس أقل من عشر دقائق، بل إن رؤيته بالعين المجردة أمر غير وارد إذا كان مكثه أقل من عشرين دقيقة، وهذا يتفق مع نتائج خبراء رصد الهلال الحقيقيين على مدى مئات السنين الخالية.
وأما الطلب الثاني، فلقد درجت العادة عند بعض الفلكيين أن يبينوا موعد حدوث الاقتران (تولد الهلال) كموعد ثابت لا يتغير من منطقة لأخرى، وهذا غير دقيق، فموعد اقتران القمر (تولد الهلال) يختلف من منطقة لأخرى، والموعد الثابت الذي يبينه الفلكيون في العادة يسمى الاقتران المركزي، أي موعد الاقتران بالنسبة لمركز الأرض، ولكننا نحن الناس نعيش على سطح كوكب الأرض وليس في مركزه، وما يهمنا ويعنينا هو موعد الاقتران بالنسبة لنا وليس بالنسبة لمركز الأرض! ولكل منطقة على سطح الأرض موعد معين للاقتران يسمى الاقتران السطحي، ويصل أكبر فارق بين الاقتران المركزي والسطحي إلى ساعتين. ولقد بينا في غير مرة أهمية أن يعتمد الفلكيون ومعدو التقاويم موعد الاقتران السطحي وليس المركزي. لأن اعتماد موعد الاقتران المركزي لحساب بداية الشهر الهجري بالنسبة لمنطقة معينة تشوبه بعض الإشكاليات! فكما ذكرنا قبل قليل فإن تقويم أم القرى يبدأ الشهر إذا حدث الاقتران قبل غروب الشمس بالنسبة لمكة المكرمة وإذا غاب القمر بعد غروب الشمس في مكة المكرمة، إلا أن موعد الاقتران المعتمد هو الاقتران المركزي! فقد يبدأ الشهر في تقويم أم القرى لأن الاقتران المركزي قد حدث قبل غروب الشمس، ولكن في الواقع قد يحدث الاقتران السطحي (وهو الحقيقي) بعد غروب الشمس. وإضافة إلى ذلك فإن اعتماد موعد الاقتران المركزي قد يكون مربكا للناس أحيانا بل وحتى يوقع الناس في شك تجاه الفلكيين! فالفلكيون ما فتئوا يؤكدون أن كسوف الشمس هو اقتران مرئي، وهو شاهد يراه الناس يؤكد دقة الحسابات الفلكية! ولكن فلنلقي نظرة مرة أخرى على الوضع في اقتران شهر محرم القادم:-
سيحدث اقتران القمر (تولد الهلال) يوم الأحد في الساعة الثالثة عصرا و50 دقيقة بتوقيت مكة المكرمة، وكما ذكرنا في نفس هذا اليوم سيشاهد سكان مكة المكرمة كسوفا جزئيا للشمس، والأصل أن يكون موعد ذروة الكسوف (منتصف الكسوف) هو موعد اقتران القمر! وإلا دل ذلك على خطأ الحسابات الفلكية! ولكن بالعودة إلى الحسابات الفلكية نجد أن كسوف الشمس في مكة المكرمة سيبدأ بمشيئة الله في الساعة الرابعة عصرا و14 دقيقة، وستكون الذروة في الساعة الخامسة عصرا و15 دقيقة، وستغيب الشمس مكسوفة في الساعة الخامسة و42 دقيقة. فلنلاحظ أن كسوف الشمس قد بدأ بعد موعد اقتران القمر بـ 24 دقيقة، وأن موعد الذروة بعد 85 دقيقة من موعد الاقتران! إذا هل هناك خلل في الحسابات الفلكية؟! في الحقيقة لا يوجد أي خلل أو خطأ، إنما غاية من هنالك أن موعد الاقتران المبين سابقا هو موعد الاقتران المركزي وليس السطحي! وإذا حسبنا موعد الاقتران السطحي (تولد الهلال السطحي) لمدينة مكة المكرمة سنجد أن موعد الاقتران هو في الساعة الخامسة عصرا و09 دقائق! وهو مقارب جدا لموعد ذروة الكسوف، وهناك سبب علمي لوجود الفارق بينهما والبالغ 06 دقائق، إلا أن المجال لا يسمح الآن لهذا الشرح. وخلاصة ذلك أننا نرى أنه من الضروري أن يعتمد معدو التقاويم على الاقتران السطحي وليس المركزي، وهذا الكسوف خير دليل على ذلك.
كما بدأت كلامي فإنني أعتقد أن هذه الطلبات متواضعة جدا أمام الدروس المستفادة التي جناها الغرب من رصد كسوف الشمس، ولكن على الرغم من ذلك، هل سيدرك هذه الأمور البسيطة جدا بعض من مطلوب منه أن يدركها؟ وهل سيترتب على ذلك تعديل على الوضع القائم؟ لا أريد أن أكون متشائما، ولذلك سأقول… إن شاء الله!
تعليقات
إرسال تعليق