لم يُر الهلال، فماذا نستفيد؟

لقد قمت بتحري هلال شهر شعبان يوم الأربعاء 20 يونيو من مدينة أبوظبي باستخدام تقنية التصوير الفلكي بكاميرا السي سي دي. وكنبذة سريعة، هذه التقنية هي أحدث طريقة لتحري الهلال، وهي تفوق التحري باستخدام التلسكوب، فقد أمكن باستخدام هذه الطريقة رؤية أهلة لم تكن رؤيتها ممكنة سابقا باستخدام التلسكوبات، بل حتى أمكن رؤية أهلة باستخدام هذه التقنية في وضح النهار، ومن البديهي القول أنه إن لم ير الهلال باستخدام تقنية التصوير الفلكي هذه، فمن المؤكد أنه لم يكن بالإمكان رؤية الهلال باستخدام التلسكوب من نفس المكان والظروف، وبالطبع يكون من المستحيل رؤيته بالعين المجردة في هذه الحالة.

إن رصدي لهلال شهر شعبان هذا استوقفني كثيرا، فالحسابات الفلكية كانت تشير إلى أن إمكانية رؤية الهلال بعد غروب الشمس في ذلك اليوم من مدينة أبوظبي ممكنة باستخدام التلسكوب وصعبة جدا بالعين المجردة، أما إمكانية رؤيته باستخدام تقنية التصوير الفلكي الحديثة فهي سهلة جدا، فقد تم سابقا رؤية الهلال في وضح النهار باستخدام هذه التقنية عندما كان على بعد 5 درجات فقط من الشمس (بل حتى أقل من ذلك بقليل)، وبالنسبة لي، فقد كان بعد القمر عن الشمس يوم الأربعاء في الساعة التاسعة صباحا 8 درجات، وأصبح في الساعة الثانية ظهرا 9 درجات، وفي الساعة السابعة مساء (أي قبل غروب الشمس بـ 14 دقيقة) 11 درجة، وهذه الأرقام تعني أنه من السهل رؤية الهلال من الصباح الباكر، وستصبح الرؤية اكثر سهولة بمرور الوقت، إلى أن تصبح ممكنة بعد الظهر بدون استخدام أي نوع من أنواع معالجة الصور، فهذا هو ما نعرفه من واقع التجربة من خلال راصدين آخرين في ألمانيا وفرنسا، بل وحتى من واقع رصدي باستخدام هذه التقنية من الأردن وقطر والإمارات.

أثناء نقل أدوات الرصد على سطح المبنى بإشراف أحمد موعد ومن قبل سنديب وآخرين

ولكن عندما بدأت الرصد في الساعة التاسعة والنصف صباحا لم أر الهلال على الرغم من استخدام فلتر يمرر الأشعة تحت الحمراء فقط حتى يزداد التباين بين إضاءة الهلال وخلفية السماء الزرقاء فتسهل رؤيته، وعلى الرغم من تجميع 300 صورة للهلال تم وضعها فوق بعضها البعض عن طريق برنامج متخصص في معالجة الصور لتسهيل الرؤية!

اعتبرت الأمر عاديا ولم أبالي كثيرا، فما زال أمامنا متسع من الوقت، وسيزداد بعد القمر عن الشمس، وسيصبح متيسرا بالتأكيد بعد الظهر، وبسبب درجة الحرارة المرتفعة التي بلغت 39 درجة مئوية في الساعة العاشرة صباحا، وبلغت 43 درجة مئوية بعد الظهر، كنا نأخذ استراحات طويلة كل فترة من الزمن، وبعد 19 محاولة لم أفلح برؤية الهلال! 15 محاولة منها تمت بين الساعة الرابعة عصرا والسابعة مساء! قد يعتقد أحدهم أن المشكلة كانت بتوجيه التلسكوب، في الحقيقة لقد كنت استخدم تلسكوبا محوسبا يتوجه نحو الهلال بشكل تلقائي بمجرد الضغط على أمر التوجه نحو القمر، ولأتأكد من دقة توجه التلسكوب قمت عدة مرات بالطلب من التلسكوب بالتوجه إلى كوكب المشتري ونجمة رجل الأسد وكوكب عطارد، وكان الجرم المطلوب ياتي دائما في منتصف حقل الرؤية تماما، عدا مرة واحدة كان الجرم منحرفا شيئا قليلا عن وسط الحقل. إذا لا توجد مشكلة في التوجيه ولا في ضبط البؤرة ولا في التصوير ولا في أي أمر آخر، وإلا لما ظهرت هذه الأجرام.

جانب من الرصد مع زميلي خالد اسكندر

إلا أن اللافت للنظر أن كوكب المشتري على الرغم من شدة ضيائه (فهو ألمع جرم في السماء بعد الشمس والقمر وكوكب الزهرة) إلا أنه عندما ظهر في منتصف حقل الرؤية كان ظاهرا بصعوبة، وبالكاد تمكنت من رؤيته! فعلى الرغم من أن الضياء الكلي للهلال أكبر من الضياء الكلي للمشتري، إلا إنه بسبب أن الهلال عبارة عن جرم متسع، فإن الإضاءة تتوزع على مساحة كبيرة، وبالتالي تكون الإضاءة على وحدة المساحة بالنسبة للهلال أقل من تلك للمشتري، وبكلام آخر أقصد القول أن رؤية المشتري في تلك الظروف أسهل من رؤية الهلال… فإن كان المشتري قد بدا بتلك الصعوبة، فكان من الطبيعي أن لا يظهر الهلال! ولكن لماذا كانت هذه الصعوبة في الرؤية على الرغم من أن عمر الهلال في الساعة السابعة مساء كان 22 ساعة و27 دقيقة، وكان مكثه بعد غروب الشمس 37 دقيقة، إلا أن كل هذا لم يشفع له ليرى باستخدام أكثر التقنيات تقدما؟ وهنا نصل إلى بيت القصيد!

لقد كنت أرصد من مدينة أبوظبي بالقرب البحر، وكان الجو في ذلك اليوم يعتبر بالنسبة لمدينة أبوظبي عاديا، ولكن بالنسبة للمقاييس العالمية كان الجو مغبرا وكانت نسبة الرطوبة عالية، وأعيد وأكرر أنه لم يكن يوما استثنائيا أو شاذا، بل كان يوما عاديا. في الحقيقة هذا هو حال المناطق الواقعة على سطح البحر وحال معظم المناطق الصحراوية، فالمعلومة الشائعة أن الصحراء هي من أفضل الأماكن لرصد الهلال عبارة عن معلومة مغلوطة، بل حتى معكوسة! فالصحراء الرملية والأماكن الواقعة على سطح البحر هي من أسوأ الأماكن لرصد الهلال، فالغبار والرطوبة يعملان على تشتيت أشعة الهلال القليلة أصلا، فلا يصلنا منها شيئا! ولذلك كانت التوصية دائما بالرصد من المناطق الجبلية، حيث الغلاف الجوي النقي.

وهذا الرصد لهو دليل قوي لبعض متخذي القرار على ضرورة التثبت من الشهود الذين يشهدون برؤية الهلال من الأماكن الصحراوية، خاصة عندما يشهدون برؤية هلال يجمع أهل الخبرة على أنه غير ممكن الرؤية، وخاصة عندما لا يراه الفلكيون بتلسكوباتهم! ويكون الرد علينا غالبا أنهم أهل خبرة! ولكن في الحقيقة نحن أيضا أهل خبرة، وعندنا من التقنية ما تفوق تقنيتهم وعينهم المجردة، وهذا ما أثبتناه للملأ عمليا لا نظريا. إلا أن كل خبراتنا هذه وكل أجهزتنا المتقدمة لم تشفع لنا لنخرق قوانين الطبيعة أو دفعتنا للادعاء برؤية أمور تعجز حتى أكثر الأجهزة العلمية تقدما من رؤيتها …. فمتى سنلقي بالا للعلم نحن أمة إقرأ؟

ملاحظة: لا بد أن أشكر زميلي في العمل خالد أشرف على مرافقتي في الرصد على الرغم من الجو غير المحتمل، فقد كان خالد المسؤول عن بث وقائع الرصد مباشرة على شبكة الإنترنت. فبالنسبة لي كانت النتيجة العلمية وأهدفنا في المشروع الإسلامي لرصد الأهلة دافعا قويا للاستمرار حتى عند درجة حرارة 43 مئوية، إلا أن زميلي خالد لم يكن له أي دافع سوى صداقتنا فكل الشكر والتقدير له.

تعليقات