لماذا “نبذّر” المال في الفضاء ؟
مع إطلاق كل مهمة فضائية جديدة، وخاصة عند فشل مركبة ما (كما شهدنا مؤخّراً)، يواجهني طلبتي ومعارفي بالتساؤل التالي : لماذا نبذّر المال في مثل هذه المغامرات الفضائية في الوقت الذي يوجد فيه الكثير من الفقر والمعاناة التي يجب علينا محاولة تخفيفها هنا على الأرض؟ هذا تساؤل جيد وذو معنى ويستحقّ إجابة جيدة.
هناك العديد من الحجج التي يمكن للمرء أن يسوقها في هذا المجال.
أولاً، يجب أن نعاين عن كثب حجم “تبذير” المال في مشاريع الفضاء، ومقارنة ذلك مع نفقات البشر الأخرى. وإن اطّلعنا على ميزانيات الدول فإننا نجد أن مجموع ما تخصّصه للمشاريع الفضائية يقلّ عن 40 بليون دولار سنويا. فمثلاً، تبلغ ميزانية “ناسا” للعام 2012 حوالى 19.5 بليون دولار (وهو ما يساوي 0.5 بالمئة من كامل ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية)، أما ميزانية “إيسا” (وكالة الفضاء الأوروبية فبلغت 5.65 بليون دولار للعام 2011، أما ميزانية روسيا للفضاء فبلغت نحو 2.5 بليون دولار، والصين 2 بليون دولار، والهند 1.6 بليون، بالإضافة إلى مبالغ أقلّ للدول الأخرى الأصغر.
كما أنّ نفقات البشر على المشاريع الفضائية بكاملها، بما فيها الأقمار الصناعية والصواريخ والمركبات الفضائية ومئات آلاف الأشخاص العاملين في هذا المجال، تتزايد سنوياً بنسبة 1 بالمئة تقريباً.
النفقات المدمّرة !
إن هذه النفقات الفضائية ستبدو ضئيلة جدا إذا ما قورنت بالميزانيات العسكرية (أسلحة وبشر)، إذ بلغت هذه الأخيرة 1630 بليون دولار في العالم سنة 2010، حيث يمثل الجزء الأمريكي 42 % من ذلك! إن ذلك يقدر بأربعين ضعفا مما ينفق عالميا على المشاريع والأبحاث الفضائية، وتتزايد الميزانية العسكرية في العالم بنسبة 5 % كل سنة.
ولئلا يظنّ الناس أنهم ليسوا مسؤولين عن أي من ذلك (سواء التبذير في الفضاء، أو تلك الميزانيات العسكرية المخيفة)، فإنني أودّ ذكر أنواع أخرى من النفقات وهي أكثر ما تكون على المستوى الشخصيّ. ففي أوروبا (حيث تتوفّر الإحصائيات)، ينفق الناس حوالى 50 بليون دولار سنوياً على السجائر؛ والأوروبيون، الذين يشكّلون فقط 10 بالمئة من سكان العالم، ينفقون 150 بليون دولار على المشروبات الكحولية، و24 بليون دولار على أغذية الحيوانات الأليفة و200 بليون دولار على مستحضرات التجميل، و1.4 تريليون دولار على التسلية والإعلام (الموسيقى، العروض التلفازية، الإلكترونيات، الصحف والمجلات، الخ)!
ماذا عن هدر الغذاء وما تلقيه المنازل والفنادق من طعام زائد عن حاجة شرائح من المستهلكين فيما شرائح أخرى تعاني الفقر بل والمجاعة! إنها مفارقةٌ صادمة يجب أن تستوقفنا لمراجعة مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه ما نمارسه من تبذير وهدر.
وعند هذه النقطة من النقاش، عادةً ما يردّ عليّ مُحاوِريَّ بالتالي: نعم، نحن البشر فعلا نضيّع أموالاً طائلة على أشياء مدمّرة (الأسلحة، السجائر، الكحوليات)، لكن هل يعني ذلك أنه يجوز أن نرمي المزيد في الفضاء؟
حسناً، هناك طريقتان لمواجهة هذه الحجة: الأولى بتعداد الفوائد الهائلة والمنوّعة التي نتجت عن أبحاث الفضاء. في الحقيقة، لأن الفضاء ذو محدّدات مختلفة عما هو عليه الحال على الأرض بالنسبة للكثير من المشاريع، سواء أكان ذلك قمراً صناعياً جديداً أو رحلة للمريخ أو غير ذلك، فإن هناك حاجة لتطوير أدوات جديدة، وغالباً ما تكون لها تطبيقات في حياتنا هنا على الأرض.
هناك، وبدون مبالغة، مئات الفوائد العرضية التي تتراوح بين تقنيات البيولوجيا الطبية إلى الأنظمة الرقمية، ومن تقنية التصوير الى علم الروبوت، حيث وجدت استخدامات مهمة في الطب، والرصد الجويّ، والمراقبة البيئية (للكوارث البيئية)، وتقنية الاتصالات والمعلومات، والاستشعار عن بعد، والمسح، ومجالات أخرى عديدة. وما يجب تأكيده هو أن مثل تلك التطبيقات تساعد بالفعل في التخفيف من الفقر ومن المعاناة البشرية، وهو ما يطالبنا المشكّكون (في جدوى الإنفاق على الفضاء) بالتركيز عليه.
أما السبيل الآخر لمواجهة المحاججة ضدّ فكرة “إنما مشاريع الفضاء ذات إنفاق تفاخريّ ويجب على الأكثر أن تترك للدول الغنية جداً” فهو التأكيد بشكل أكبر على الهدف الثقافيّ والتعليميّ للتوجه الى الفضاء. إن السعي لمواكبة مثل هذه المشاريع النبيلة يعكس القيم الفكرية لأمة ما: فكلما تطلّعنا للأعلى أثبتنا أننا ذوو تفكير مستقبليّ وتوجه أقلّ مادية واستهلاكية. وكلما دفعت الحكومات مواطنيها للبحث عن أنواع الاكتشافات كافّة (في المجال الفضائيّ أو الأرضيّ)، زاد ميل الناس نحو المهن العلمية والثقافية وتمّ الارتقاء بالمجتمع بأكمله بمختلف الطرق.
في أجزاء كثيرة من العالم، بما فيها منطقتنا العربية، يشعر الطلاب أن العلم صارم وصعب وبأنه غير مُجدٍ اقتصادياً مقارنةً بالمهن الإدارية والتجارية. وهنا ندرك أنه من الواجب علينا أن نفعل كلّ شيء لتشجيع أبنائنا وطلبتنا لاستثمار قدراتهم في المجالات العلمية، ليس فقط لأنها ممتعة بل ولأنها مهمة جداً. ويجب أن لا ننسى الأهمية الاستراتيجية للفضاء، حيث تتنافس القوى الكبرى في “الاستشعار عن بعد” (كثير منه تجسس).
إن تشجيع الطلبة لارتياد هذا المجال وتطبيقاته يجب أن يأتي على شكل برامج استراتيجية، حيث تستثمر الحكومات والشركات من أجل المستقبل. ويجب أن تكون الرواتب والمكافآت مجزية. لكن الأهم هو أنّ على المجتمع عامةً، والتعليم وقطاعات الإعلام خاصّة، أن تبرز صورة مشرقة لهذه المجالات وللعاملين فيها.
من المخجل أن يصعب على معظم العرب والمسلمين تسمية رائد فضاء عربيّ أو مسلم (نعم، لقد شارك بعضهم في رحلات فضائية)، وفي المقابل فإن الكثيرين يستطيعون تسمية فرق رياضية بكاملها أو طواقم أفلام سينمائية. من المؤكّد أننا بحاجة لتغيير هذا الوضع من أجل مستقبلنا ومن أجل أبنائنا.
تعليقات
إرسال تعليق